"لم يكن عهد صلاح الدين مجرد حلقة من حلقات تاريخ الحملات الصليبية. بل كان و احدة من تلك اللحظات النادرة و الدرامية فى التاريخ و التى أخلت فيها الشكوك و الأوهام المتولدة عن الطموحات الأنانية للأمراء مكانها لفترة وجيزة للعزيمة الأخلاقية ووحدة الهدف. بدون هذا الأساس لم يكن للجيوش الإسلامية أن تتحمل الصراع المرهق للحملة الصليبية الثالثة. و إن كان لهذا الإنجاز أن يرى و يفهم فى إطاره التاريخى فإن علينا أن نحاول إيضاح كيف – مستخدما ما أضطر إلى إستخدامه من موارد متاحة و فى ظل الظروف السياسية لعصره – تمكن صلاح الدين من أن يقهر العقبات التى حالت دون خلق الوحدة الأخلاقية التى رغم عدم كمالها قد أثبتت أنها بالقدر الكافى من القوة لمواجهة تحدى الغرب"
بهذه الكلمات يفتتح سير هاميلتون جب فصلا بعنوان "صعود صلاح الدين" فى كتاب "تاريخ الحملات الصليبية".. هذا الكتاب قد يكون الدراسة الأكاديمية الأكثر عمقا و تفصيلا التى تم إعدادها حول الحملات الصليبية.. و هو كتاب ضخم يقع فى أربعة مجلدات و شارك فيه عدد كبير من كبار أساتذة التاريخ فى الجامعات الأمريكية و الأوروبية المتخصصين فى هذه الفترة من تاريخ العالم.. و ربما يجدر بالذكر أن سير هاميلتون جب قد ولد فى الأسكندرية فى مصر.. و ربما يكون ذلك سبب إهتمامه بدراسة اللغة العربية و التخصص فى الدراسات الإسلامية و التى برع فيها إلى أقصى حد فكان أحد محررى موسوعة الإسلام فى طبعتها الثانية كما أن له كتابات أخرى أعتبرت لفترة طويلة المراجع الأساسية فى الغرب عن الإسلام تاريخا و عقيدة.
ربما لا نكون فى حاجة إلى كلمات مؤرخ غربى حتى ندرك تفرد الناصر صلاح الدين الأيوبى بين ملوك و قادة عصره بل و بين كافة من عرفهم تاريخ المسلمين من ملوك و قادة منذ نهاية عهد الفتح الأول.. و لكن شهادة مؤرخ غربى هو محايد على أفضل تقدير لها قيمتها فى فهم عظمة هذه الشخصية التى فرضت على أعدائها إحترامها و على التاريخ فيما بعد أن يفرد لها مكانا خاصا يميزها بين شخصيات هذا العصر المضطرب.
لماذا صلاح الدين الآن؟
و هل ثم وقت كنا فيه أمس حاجة إلى تمثل نموذجه و إلى فهم حقيقة إنجازه؟
حتى ندرك قدر إنجاز صلاح الدين ينبغى لنا أن نتعرف على بعض ملامح عصره التى كان لها أثر كبير فى طبيعة الصراع ضد الحملات الصليبية قبل و بعد صلاح الدين.. أهم تلك الملامح هو غياب الوحدة السياسية و النظام الإقطاعى و هما معا قد أديا إلى إصابة الشرق الإسلامى بالعجز فى مواجهة الحملات الصليبية و فى المقابل كان وجود نفس العاملين على جانب الصليبيين أيضا سببا فى تجمد توسعهم إلى حد كبير منذ حققوا أهم إنجازاتهم فى الحملة الصليبية الأولى و قد فشلوا فى تحقيق أهم طموحاتهم و هو الإستيلاء على مصر و كان التصدى لهذا الطموح جزءا من بدايات مسيرة صلاح الدين.
عندما وصلت الحملة الصليبية الأولى إلى الشرق كانت الخلافة العباسية قد فقدت أى سلطان سياسى لها منذ زمن بعيد و لم يكن الخليفة العباسى يحكم بغداد ذاتها.. كانت السلطة السياسية فى بغداد فى يد السلطان السلجوقى الذى فقد فى تلك الفترة سطوته هو الآخر و لم تكن سلطته الفعلية تشمل إلا أجزاء صغيرة من العراق.. أما سائر العراق و سوريا فقد تقاسمه عدد ضخم من أمراء السلاجقة أو أتابكهم و جميعهم فى صراع دائم فيما بينهم يتنازعون المدن الصغيرة و القرى و الحصون و بعضهم ينازع الخلافة الفاطمية فى الجنوب بقايا سلطاتها فى فلسطين بينما يحاول البعض الآخر فى الشمال التوغل فى أراضى الإمبراطورية البيزنطية دون أن يدخل فى مواجهة حقيقية ضد جيوشها.
النظام الإقطاعى كان هو الحل الذى توصل إليه أمراء و سلاطين هذا العهد للتغلب على المشكلة المتجددة لمطالبة الجند بعطائهم و العجز عن الوفاء به مما يؤدى إلى تمردهم و هو الأمر الذى ذهب ضحيته خلفاء و سلاطين كثر.. و يقوم النظام الإقطاعى على أن يتلقى كل أمير و قائد للجيش بدلا من راتبه إقطاعا و هو أراض أو قرى و مدن بأكملها يكون خراجها من نصيب ذلك القائد أو الأمير مقابل أن يضمن إستعداده للقتال على رأس قوة يترك له جمعها من الجند تحت لواء سيده الإقطاعى متى قضت الضرورة بذلك.
كان النظام الإقطاعى من جانب يدعم إستمرار التشرذم السياسى حيث يضمن إستقلال الأمراء الصغار بإقطاعتهم كلما ضعف سيدهم و من الجانب الآخر كان يحتم على أى قائد طموح أيا كان هدف طموحه أن يسعى إلى فرض سلطانه على أكبر مساحة ممكنة من الأرض حيث أن تلك الأرض هى وحدها ما يكفل له تجنيد جيش عامل فى الميدان.. و فى هذه الحقيقة نجد تبرير إحتياج صلاح الدين و إضطراره إلى قتال أمراء و حكام مسلمين و إصراره على أن يخضعوا لسلطانه إذ لم يكن ثم سبيل آخر لضمان أن يكون جنودهم قوة له لا عليه .. و قد كان درس ضرورة الوحدة مما تعلمه صلاح الدين من أستاذه نورالدين محمود الذى توصل إليه بدوره من خلال سيرة أبيه عماد الدين زنكى.
و سيرة هؤلاء الثلاثة الكبار فى تاريخ تلك المرحلة الهامة تؤكد درسا آخر و هو أن التجارب العظيمة فى تاريخ الأمم لا تنشأ من فراغ بل تأتى كنتيجة لتطور يمهد لها و يجعلها ممكنة.
لم يكن عماد الدين زنكى الأتابك حاكم الموصل مختلفا فى الحقيقة عن أمراء عصره.. كان أكثر طموحا و ربما أكثر قسوة و شراسة أيضا و كان همه توسعة ملكه و بسط سلطانه و لذلك فهو لم يعمد قط إلى مواجهة الصليبيين فى أوان قوتهم و إتحادهم و كان إنجازه العظيم ضدهم نتيجة فرصة ضعف و فرقة ألمت بهم فإهتبلها و إنتزع من أيديهم إمارة الرها أول إمارة لاتينية أسسها الصليبيون فى الشرق.
أتى نور الدين محمود إبن عماد الدين و خليفته مختلفا عن أبيه.. لقد وعى درس الوحدة الذى أوضحه إنجاز عماد الدين و لكنه أضاف وضوح الهدف الذى ألهمه إياه وازع دينى قوى و شعور بمسئولية الحاكم تجاه أمته هو الأول من نوعه فى ذلك العصر.. كان ذلك الإنجاز الأخلاقى هو أهم ما تركه نور الدين من تراث.. أهم من ضمه لدمشق التى إستعصت على أبيه و أهم حتى من تمكنه فى نهاية حياته من تحقيق حلم وحدة مصر و سوريا.
كان صلاح الدين وريث نور الدين الحقيقى و إن لم يكن من صلبه أو من أهله بل و لم يكن حتى من بنى جلدته.. كان نور الدين تركيا و كان صلاح الدين كرديا.. و لكنه نشأ فكريا فى كنف نور الدين و تشرب منه تلك الرؤية الواضحة للهدف و ذلك الوازع الدينى العميق الذى ترجمه إلى مبادئ و سلوكيات.. و ورث صلاح الدين بالطبع إدراك نور الدين لضرورة الوحدة لتحقيق الهدف و لذلك فقد أمضى نصف عمره يقاتل من أجل تحقيق الوحدة و إضطر فى أحيان كثيرة إلى الدخول فى صراع ضد ذرية أستاذه و إخوته.. و لذلك كله و عندما أتت الساعة الموعودة لم يتحين صلاح الدين فرصة الإنفراد بإمارة صليبية على حدة فى وقت ضعف لها بل واجه قوى الصليبيين موحدة و مجتمعة فى أضخم معركة عرفتها الحروب الصليبية و هى معركة حطين.. و قد كان نصره تاما و ساحقا حتى أن مدن الصليبيين و حصونهم قد خلت بعدها ممن له قدرة على الدفاع أو حمل السلاح و قد إستسلم معظمها دون قتال و صمد البعض لحصار قصير يسمح بالتفاوض حول شروط الإستسلام.. و ربما كان أعنف حصار هو ما شهدته القدس و لكنه إنتهى إلى إستسلام وفق شروط كان صلاح الدين فيها كريما غاية الكرم.
الدروس الإيجابية لسيرة صلاح الدين هى ضرورة الوحدة و إن إستدعت قتال الأشقاء فى بعض الأحيان .. و هى أن تجربة الكفاح الوطنى تنبنى على تطور يمهد لها و ليس بالإمكان أن تنشأ فى فراغ.. و هى أن وضوح الهدف ضرورى للوصول بالإنجاز إلى منتهاه.. و هى أخيرا و ليس آخرا أن الإلتزام بأخلاقية الصراع و نعنى بها شرعية الصراع و إستناده إلى الحق تحتم إلتزاما أخلاقيا فى المبادئ و السلوك.
درس سلبى وحيد ينبغى ألا نغفله و هو يبدو واضحا فى سيرة القادة الثلاثة و يتبدى بشكل أكثر فداحة فى سيرة أعظمهم و أهمهم و هو صلاح الدين نفسه.. هذا الدرس السلبى هو أن الإنجاز الذى ينبنى على القدرة الفردية الإستثنائية لشخص واحد هو إنجاز قصير العمر و محدود بحياة صاحبه.. فى كل مرحلة من مراحل الكفاح الثلاثة كانت وفاة القائد صاحب الإنجاز تهدد بإنتقاض كل ما حققه و تبديده .. حدث ذلك عند وفاة عماد الدين و تجزئة مملكته بين أبنائه و أمضى نور الدين وقتا طويلا يعمل لإستعادة الوحدة التى أنجزها أبوه.. و تكرر ذلك عند وفاة نور الدين و كان على صلاح الدين أن يقاتل ربع قرن لتثبيت أركان وحدة كان نورالدين قد أنجزها من قبل.. و قد كان ذلك كله مقبولا على ما فيه من ضياع للوقت و الموارد لأنه كان ثمة وريث مباشر أو غير مباشر كان فى الواقع أعظم و أقدر من سلفه إستدرك ما فات ثم بنى عليه.. و لكن عند وفاة صلاح الدين عز إيجاد الوريث الذى يمكنه القيام بعبئ توحيد الدولة بعدما تهشمت قطعا ذهب بها أبناء صلاح الدين و إخوته و أبنائهم بل و أبناء عمه أسد الدين شيركوه أيضا؟
و إذا نحن أردنا أن نجمع دروس سيرة هذا القائد إيجابية و سلبية معا فإننا لنرى بوضوح أنه لا ينبغى لأمتنا أن تنتظر صلاح الدين.. إنما ينبغى للأمة أن تتمثل شخصية و سيرة صلاح الدين حتى تصبح الأمة مجتمعة هى صلاح الدين هذا العصر.. مثل هذه الأمة التى تتحد على هدف واضح تؤمن بشرعيته و ترتفع بأخلاقها و سلوكها فى الصراع إلى مستوى مسئوليتها الأخلاقية.. ثم هى تضيف إلى ذلك تأمين الضمانات التى تكفل إستمرارية العمل و الكفاح حيث لا تكون مسئولية ذلك ملقاة على عاتق أشخاص تنجح بنجاحهم و تسقط بعثراتهم و تنحط بإنحطاطهم بل هى مسئولية مشتركة للأمة ككل تنهض بها مؤسسات ثابتة و قوية تنشئها الأمة بنفسها و تصطنعها على عينها و تكون قيمة عليها لا خاضعة لها.. إذا كان لنا ذلك كنا جديرين بأن نكون أمة الناصر صلاح الدين.
بهذه الكلمات يفتتح سير هاميلتون جب فصلا بعنوان "صعود صلاح الدين" فى كتاب "تاريخ الحملات الصليبية".. هذا الكتاب قد يكون الدراسة الأكاديمية الأكثر عمقا و تفصيلا التى تم إعدادها حول الحملات الصليبية.. و هو كتاب ضخم يقع فى أربعة مجلدات و شارك فيه عدد كبير من كبار أساتذة التاريخ فى الجامعات الأمريكية و الأوروبية المتخصصين فى هذه الفترة من تاريخ العالم.. و ربما يجدر بالذكر أن سير هاميلتون جب قد ولد فى الأسكندرية فى مصر.. و ربما يكون ذلك سبب إهتمامه بدراسة اللغة العربية و التخصص فى الدراسات الإسلامية و التى برع فيها إلى أقصى حد فكان أحد محررى موسوعة الإسلام فى طبعتها الثانية كما أن له كتابات أخرى أعتبرت لفترة طويلة المراجع الأساسية فى الغرب عن الإسلام تاريخا و عقيدة.
ربما لا نكون فى حاجة إلى كلمات مؤرخ غربى حتى ندرك تفرد الناصر صلاح الدين الأيوبى بين ملوك و قادة عصره بل و بين كافة من عرفهم تاريخ المسلمين من ملوك و قادة منذ نهاية عهد الفتح الأول.. و لكن شهادة مؤرخ غربى هو محايد على أفضل تقدير لها قيمتها فى فهم عظمة هذه الشخصية التى فرضت على أعدائها إحترامها و على التاريخ فيما بعد أن يفرد لها مكانا خاصا يميزها بين شخصيات هذا العصر المضطرب.
لماذا صلاح الدين الآن؟
و هل ثم وقت كنا فيه أمس حاجة إلى تمثل نموذجه و إلى فهم حقيقة إنجازه؟
حتى ندرك قدر إنجاز صلاح الدين ينبغى لنا أن نتعرف على بعض ملامح عصره التى كان لها أثر كبير فى طبيعة الصراع ضد الحملات الصليبية قبل و بعد صلاح الدين.. أهم تلك الملامح هو غياب الوحدة السياسية و النظام الإقطاعى و هما معا قد أديا إلى إصابة الشرق الإسلامى بالعجز فى مواجهة الحملات الصليبية و فى المقابل كان وجود نفس العاملين على جانب الصليبيين أيضا سببا فى تجمد توسعهم إلى حد كبير منذ حققوا أهم إنجازاتهم فى الحملة الصليبية الأولى و قد فشلوا فى تحقيق أهم طموحاتهم و هو الإستيلاء على مصر و كان التصدى لهذا الطموح جزءا من بدايات مسيرة صلاح الدين.
عندما وصلت الحملة الصليبية الأولى إلى الشرق كانت الخلافة العباسية قد فقدت أى سلطان سياسى لها منذ زمن بعيد و لم يكن الخليفة العباسى يحكم بغداد ذاتها.. كانت السلطة السياسية فى بغداد فى يد السلطان السلجوقى الذى فقد فى تلك الفترة سطوته هو الآخر و لم تكن سلطته الفعلية تشمل إلا أجزاء صغيرة من العراق.. أما سائر العراق و سوريا فقد تقاسمه عدد ضخم من أمراء السلاجقة أو أتابكهم و جميعهم فى صراع دائم فيما بينهم يتنازعون المدن الصغيرة و القرى و الحصون و بعضهم ينازع الخلافة الفاطمية فى الجنوب بقايا سلطاتها فى فلسطين بينما يحاول البعض الآخر فى الشمال التوغل فى أراضى الإمبراطورية البيزنطية دون أن يدخل فى مواجهة حقيقية ضد جيوشها.
النظام الإقطاعى كان هو الحل الذى توصل إليه أمراء و سلاطين هذا العهد للتغلب على المشكلة المتجددة لمطالبة الجند بعطائهم و العجز عن الوفاء به مما يؤدى إلى تمردهم و هو الأمر الذى ذهب ضحيته خلفاء و سلاطين كثر.. و يقوم النظام الإقطاعى على أن يتلقى كل أمير و قائد للجيش بدلا من راتبه إقطاعا و هو أراض أو قرى و مدن بأكملها يكون خراجها من نصيب ذلك القائد أو الأمير مقابل أن يضمن إستعداده للقتال على رأس قوة يترك له جمعها من الجند تحت لواء سيده الإقطاعى متى قضت الضرورة بذلك.
كان النظام الإقطاعى من جانب يدعم إستمرار التشرذم السياسى حيث يضمن إستقلال الأمراء الصغار بإقطاعتهم كلما ضعف سيدهم و من الجانب الآخر كان يحتم على أى قائد طموح أيا كان هدف طموحه أن يسعى إلى فرض سلطانه على أكبر مساحة ممكنة من الأرض حيث أن تلك الأرض هى وحدها ما يكفل له تجنيد جيش عامل فى الميدان.. و فى هذه الحقيقة نجد تبرير إحتياج صلاح الدين و إضطراره إلى قتال أمراء و حكام مسلمين و إصراره على أن يخضعوا لسلطانه إذ لم يكن ثم سبيل آخر لضمان أن يكون جنودهم قوة له لا عليه .. و قد كان درس ضرورة الوحدة مما تعلمه صلاح الدين من أستاذه نورالدين محمود الذى توصل إليه بدوره من خلال سيرة أبيه عماد الدين زنكى.
و سيرة هؤلاء الثلاثة الكبار فى تاريخ تلك المرحلة الهامة تؤكد درسا آخر و هو أن التجارب العظيمة فى تاريخ الأمم لا تنشأ من فراغ بل تأتى كنتيجة لتطور يمهد لها و يجعلها ممكنة.
لم يكن عماد الدين زنكى الأتابك حاكم الموصل مختلفا فى الحقيقة عن أمراء عصره.. كان أكثر طموحا و ربما أكثر قسوة و شراسة أيضا و كان همه توسعة ملكه و بسط سلطانه و لذلك فهو لم يعمد قط إلى مواجهة الصليبيين فى أوان قوتهم و إتحادهم و كان إنجازه العظيم ضدهم نتيجة فرصة ضعف و فرقة ألمت بهم فإهتبلها و إنتزع من أيديهم إمارة الرها أول إمارة لاتينية أسسها الصليبيون فى الشرق.
أتى نور الدين محمود إبن عماد الدين و خليفته مختلفا عن أبيه.. لقد وعى درس الوحدة الذى أوضحه إنجاز عماد الدين و لكنه أضاف وضوح الهدف الذى ألهمه إياه وازع دينى قوى و شعور بمسئولية الحاكم تجاه أمته هو الأول من نوعه فى ذلك العصر.. كان ذلك الإنجاز الأخلاقى هو أهم ما تركه نور الدين من تراث.. أهم من ضمه لدمشق التى إستعصت على أبيه و أهم حتى من تمكنه فى نهاية حياته من تحقيق حلم وحدة مصر و سوريا.
كان صلاح الدين وريث نور الدين الحقيقى و إن لم يكن من صلبه أو من أهله بل و لم يكن حتى من بنى جلدته.. كان نور الدين تركيا و كان صلاح الدين كرديا.. و لكنه نشأ فكريا فى كنف نور الدين و تشرب منه تلك الرؤية الواضحة للهدف و ذلك الوازع الدينى العميق الذى ترجمه إلى مبادئ و سلوكيات.. و ورث صلاح الدين بالطبع إدراك نور الدين لضرورة الوحدة لتحقيق الهدف و لذلك فقد أمضى نصف عمره يقاتل من أجل تحقيق الوحدة و إضطر فى أحيان كثيرة إلى الدخول فى صراع ضد ذرية أستاذه و إخوته.. و لذلك كله و عندما أتت الساعة الموعودة لم يتحين صلاح الدين فرصة الإنفراد بإمارة صليبية على حدة فى وقت ضعف لها بل واجه قوى الصليبيين موحدة و مجتمعة فى أضخم معركة عرفتها الحروب الصليبية و هى معركة حطين.. و قد كان نصره تاما و ساحقا حتى أن مدن الصليبيين و حصونهم قد خلت بعدها ممن له قدرة على الدفاع أو حمل السلاح و قد إستسلم معظمها دون قتال و صمد البعض لحصار قصير يسمح بالتفاوض حول شروط الإستسلام.. و ربما كان أعنف حصار هو ما شهدته القدس و لكنه إنتهى إلى إستسلام وفق شروط كان صلاح الدين فيها كريما غاية الكرم.
الدروس الإيجابية لسيرة صلاح الدين هى ضرورة الوحدة و إن إستدعت قتال الأشقاء فى بعض الأحيان .. و هى أن تجربة الكفاح الوطنى تنبنى على تطور يمهد لها و ليس بالإمكان أن تنشأ فى فراغ.. و هى أن وضوح الهدف ضرورى للوصول بالإنجاز إلى منتهاه.. و هى أخيرا و ليس آخرا أن الإلتزام بأخلاقية الصراع و نعنى بها شرعية الصراع و إستناده إلى الحق تحتم إلتزاما أخلاقيا فى المبادئ و السلوك.
درس سلبى وحيد ينبغى ألا نغفله و هو يبدو واضحا فى سيرة القادة الثلاثة و يتبدى بشكل أكثر فداحة فى سيرة أعظمهم و أهمهم و هو صلاح الدين نفسه.. هذا الدرس السلبى هو أن الإنجاز الذى ينبنى على القدرة الفردية الإستثنائية لشخص واحد هو إنجاز قصير العمر و محدود بحياة صاحبه.. فى كل مرحلة من مراحل الكفاح الثلاثة كانت وفاة القائد صاحب الإنجاز تهدد بإنتقاض كل ما حققه و تبديده .. حدث ذلك عند وفاة عماد الدين و تجزئة مملكته بين أبنائه و أمضى نور الدين وقتا طويلا يعمل لإستعادة الوحدة التى أنجزها أبوه.. و تكرر ذلك عند وفاة نور الدين و كان على صلاح الدين أن يقاتل ربع قرن لتثبيت أركان وحدة كان نورالدين قد أنجزها من قبل.. و قد كان ذلك كله مقبولا على ما فيه من ضياع للوقت و الموارد لأنه كان ثمة وريث مباشر أو غير مباشر كان فى الواقع أعظم و أقدر من سلفه إستدرك ما فات ثم بنى عليه.. و لكن عند وفاة صلاح الدين عز إيجاد الوريث الذى يمكنه القيام بعبئ توحيد الدولة بعدما تهشمت قطعا ذهب بها أبناء صلاح الدين و إخوته و أبنائهم بل و أبناء عمه أسد الدين شيركوه أيضا؟
و إذا نحن أردنا أن نجمع دروس سيرة هذا القائد إيجابية و سلبية معا فإننا لنرى بوضوح أنه لا ينبغى لأمتنا أن تنتظر صلاح الدين.. إنما ينبغى للأمة أن تتمثل شخصية و سيرة صلاح الدين حتى تصبح الأمة مجتمعة هى صلاح الدين هذا العصر.. مثل هذه الأمة التى تتحد على هدف واضح تؤمن بشرعيته و ترتفع بأخلاقها و سلوكها فى الصراع إلى مستوى مسئوليتها الأخلاقية.. ثم هى تضيف إلى ذلك تأمين الضمانات التى تكفل إستمرارية العمل و الكفاح حيث لا تكون مسئولية ذلك ملقاة على عاتق أشخاص تنجح بنجاحهم و تسقط بعثراتهم و تنحط بإنحطاطهم بل هى مسئولية مشتركة للأمة ككل تنهض بها مؤسسات ثابتة و قوية تنشئها الأمة بنفسها و تصطنعها على عينها و تكون قيمة عليها لا خاضعة لها.. إذا كان لنا ذلك كنا جديرين بأن نكون أمة الناصر صلاح الدين.
هناك 9 تعليقات:
طبعا عرض رائع كالعاده
حضرتك اوجزت وعرضت فتره من اهم فترات تاريخنا الاسلامى
بس اختلف معاك ان الوحده ممكن تبنى حتى على القتال...ده مبدأ ميكافيللى....وبعدين دى كانت سمه العصر ده....والاحداث دى تكاد تكون بالكربون حدثت فى اوروبا....نظام الاقطاع وسيطره الامراء ...والصراعات بينهم
الوحده بيننا ستاتى عن طريق العلاقات والمصالح المشتركه....اذا شعر الافراد الحاكمه والشعوب المحكومه ان التحاد هيؤدى الى الافاده المتبادله....مع ووجود وازع قومى والتجرد من المصالح الفرديه
اسفه للاطاله
دمت بخير....تقبل مرورى
بس ما تقوليش ميكيافيلى ..ههههههه
و الله الراجل ده مظلوم و إتشنع عليه أكتر من اللازم..
أنا ها أستخدم مبدأ إسلامى فى أمر إقتتال فئتين من المؤمنين.. كان الأمر الإلهى واضح بالسعى أولا لإصلاح ما بينهما فإذا خاب السعى كان من الواجب قتال الفئة التى تبغى حتى تعود إلى الصواب..
و الفيصل الأخير كما هو واضح هو صوابية الهدف مع عدم تكفير أى من الطرفين و فى إطار العمل الوطنى صوابية الهدف تبقى هى المعيار مع عدم تخوين أى طرف لكن لابد من مساندة من يحافظ على أهداف و مصالح الوطن فى وجه من فقد الهدف الصحيح و ضيع مصالح الوطن..
شكرا لمرورك .. و أطيلى كما تريدين ما دام لديك ما ترغبين فى قوله فأنا مستعد لسماعه و الإستفادة به.
يا ريت طيب تكتب عن ميكافيللى
بس طائفتين اقتتلوا.....ممكن اقبله
على فكره انا عندى عاده سيئه لو حد علق على تعليقى لازم اعلق....لازم اكون خر واحده تتكلم فى الحديث بين طرفين
دمت بخير....تقبل مرورى
أعجبتنى جداً هذه التدوينة للأسباب التالية :
- جميل أن نستذكر هذا و الآن بالذات و نحن فى ذكرى تأبين النكبة .
- الأجمل أن ندرك أن من أسباب النصر ما قام به نور الدين محمود الذى أضاف إلى درس الوحدة شعوره بمسئولية الحاكم تجاه أمته و وضوح الهدف الذى ألهمه إياه وازع دينى قوى .
هناك جملة كان دائماً ما يرددها نور الدين و هى "نحن شرطة الشريعة ..نحن نحفظ الطريق من اللص وقاطع الطريق أفلا نحفظ الدين ونمنع عنه ما يناقضه, وهو الأصل"
- من غير المهم أن نكون من نفس الجنسية حتى نجتمع معاً للنصرة .
فصلاح الدين "كما ذكرت" كان كردياً , ولد جده لأبيه فى أذربيجان حركته الرغبة فى تحرير القدس العربية .
- أما خير خاتمة فهى حتمية وجود صف أو صفوف تالية تخلف القائد
حتى لا تكون مسئولية ذلك ملقاة على عاتق أشخاص تنجح بنجاحهم و تسقط بعثراتهم.
و أضيف
و نلومهم فى حالة تعثرهم بالرغم من إدراكنا لعدم تقصيرهم .. فى حين أن اللوم الحقيقى يقع علينا لإكفائنا بدور المشاهد الناقد .
حقيقى تدوينة رائعة .. و ما أحوجنا دائماً للنظر فى التاريخ الذى غالباً ما يعيد سطوره .
مى
---
شكرا لمرورك و لإضافاتك .. إقتباس مهم لجملة تعكس طبيعة قائلها.. نور الدين محمود رجل فى تاريخنا يستحق أكثر كثيرا مما ناله من تنويه بفضله و تقدير لأياديه على هذه الأمة..
أعود و ألح عليك فى أن تكون لك مدونتك فأكاد أجزم بأن لديك الكثير تفيدين به الآخرين و ربما تبدأين بالحديث عن نورالدين ..
. مثل هذه الأمة التى تتحد على هدف واضح تؤمن بشرعيته و ترتفع بأخلاقها و سلوكها فى الصراع إلى مستوى مسئوليتها الأخلاقية.. ثم هى تضيف إلى ذلك تأمين الضمانات التى تكفل إستمرارية العمل و الكفاح حيث لا تكون مسئولية ذلك ملقاة على عاتق أشخاص تنجح بنجاحهم و تسقط بعثراتهم و تنحط بإنحطاطهم بل هى مسئولية مشتركة للأمة ككل تنهض بها مؤسسات ثابتة و قويةبل هى مسئولية مشتركة للأمة ككل تنهض بها مؤسسات ثابتة و قوية تنشئها الأمة بنفسها و تصطنعها على عينها و تكون قيمة عليها لا خاضعة لها..**********************
كلام جميل جدا بس كيفية تطبيقة مستحيلة
ومن رابع المستحيلات
لان احنا شعوب تعودنا على وجود راعى يسوق القطيع
وفى نفس الوقت دائما كل من تزعم امتنا المنكوبة يعمل تهميش جميع مؤسساتها
ودائما اى انجاز اوشىء مهم او جميل ننسبة الى الفرد وليس الكل
ونبدا فى جعل االفرد او الحاكم فى منزلة الالة
ولا توجد عندنا اصلا قيمة للعمل الجماعى او اى اهداف مشتركة
بس دة لايمنع انة بوست جميل للاستمتاع بالتاريخ وليس للاستفادة منة
لان احنا امة لاتتعلم من تاريخها ابداااااااااااا
@دودو
-----
شكرا لمرورك..
الأمة أختى العزيزة هى فى النهاية مجموعة من الأفراد و لذلك فلا يمكننا أن نحكم على أمة ما بأن تظل على حالها إلى الأبد.. فما دام يمكننا أن نتوجه إلى الأفراد بكلامنا و نغير من أفكارهم و نبث وعيا جديدا فى عقولهم فبالإمكان أن يتسع التغيير ليشمل الأمة كلها..
يارب
دة كل اللى باتمناة ان احنا نتغير
ولوان دة حلم مستحيل
بس ربنا قادر على كل شىء
برغم إسترسالي أثناء القراء بتسلسل هاديء .. إلا أنني أحسست يصفعة حينما وصلت إلى الفقرة التي تحكي عن الجزء السلبي في هذه السيرة .. وهو أن الإنجاز الذى ينبنى على القدرة الفردية الإستثنائية لشخص واحد هو إنجاز قصير العمر و محدود بحياة صاحبه
يؤلمني هذا الموضوع ويؤرقني بشدة .. ويبدو لي أنه لا يتكرر فقط في سير العظماء .. لكنه يتكرر أيضا حتى في تفاصيل حياتنا ومجتمعاتنا .. حتى لو كنت ناجحا في عملك وأسست شركة عملاقة ثم تركتها لمن بعدك وهم غير إستثنائيين مثلك
أهي سنة الحياة في كل أمورنا؟
إرسال تعليق