لا نية لدى فى أن أكتب تحديدا عن الأزمة الحالية بين حزب الله و بين النظام فى مصر و لذلك فإذا بدا كلامى على غير ما يهوى محبى السيد نصرالله فذلك ليس جزءا من مولد الهجوم الحالى عليه و لكنه مدخل فقط لمعالجة أحد إشكاليات ثقافتنا العربية.
فى مجال الدراسة المقارنة للأديان يصنف بعضها بأنه ديانة "تخليصية" و المعنى أن الديانة تقوم جزئيا أو كليا على فكرة "المخلص" الذى ينتظر المؤمنون بها قدومه أو عودته التى بها يتم التاريخ الروحى للبشر على الأرض و يسود العدل و يهزم الشر هزيمة نهائية.. على مستوى أدنى من ذلك تشيع فكرة البطل المخلص فى كثير من الثقافات و هو دائما رجل له مميزاته الخاصة و له رسالته التى لا يتخلى عنها و التى تصب فى تخليص الناس من الظلم الواقع عليهم أو قيادتهم إلى النصر على عدو أذلهم أو تجديد شباب أمتهم و الإنتقال بها إلى مرحلة جديدة من الإزدهار.. فى هذا الإطار يمتلك كل شعب من شعوب الأرض أبطاله التاريخيين الذين ينسب إليهم الفضل فى أحد التحولات أو الإنجازات الهامة فى تاريخ هذا الشعب.. و لأن البطل دائما يحقق لشعبه أو أمته إنجازا إستثنائيا و فى أحيان كثيرة يضع حدا لعهد من عهود المهانة و الإنكسار فإن بعض الشعوب تعيش فى أوقات مختلفة حالا من اللهفة و الترقب لظهور البطل و أحيانا تقود اللهفة المفرطة إلى إصطناع أبطال مزيفيين و فى أحيان أخرى تؤدى إلى إجهاض مسيرة أبطال لم يتحققوا بعد و من ثم حرقهم قبل الأوان.
الشعوب الأكثر لهفة على ظهور البطل هى بطبيعة الحال شعوب تعيش فى حالة أزمة تحلم بالخروج منها و هى شعوب مغلوبة على أمرها بحيث لا تشعر أن فى مقدورها أن تعتمد على قواها الذاتية للتخلص من أزمتها.. و لا شك أن أمتنا العربية حاليا هى فى أزمة طال مقامها و هى أمة غلبها على أمورها جماعات حاكمة صادرت إرادة الشعوب و مواردها و ثرواتها و قدراتها و مقدراتها أيضا و لذلك فهذه الأمة تبحث دوما بإبرة عن بطل و سط أكوام زعامات صنعت كلها من قش هش و عديم القيمة.
و فى بحثها المضنى عن زعامة بطولية تعيد أمتنا إرتكاب أخطائها القديمة واحدا تلو الآخر و هى من خلال تلك الأخطاء تجهض التجارب البطولية و تقتل البطل و هو بعد جنين فى رحم العمل الوطنى أو تقوده إلى الإنتحار و فى غالب الأحيان ينتهى بنا المطاف بأبطال مبتسرين و بتجارب بطولية لم تصل إلى النهاية أو بمعنى أصح البداية الحقيقية التى تعد بها.
الآن .. ما علاقة كل ما سبق من كلام مرسل يالسيد حسن نصر الله؟ .. العلاقة المباشرة هى أن كثيرين يرون نصرالله بطلا عربيا معاصرا و البعض يراه بطل المرحلة غير منازع و ربما توجد قلة تراه البطل العربى الحقيقى الوحيد فى تاريخنا المعاصر.. بغض النظر عن حجم البطولة التى ينسبها محبى نصرالله إليه فهم فى النهاية يقترفون فى حقه أولا و فى حق أمتنا أول و أهم أخطائنا المتكررة فى شأن البطل و البطولة. هذا الخطأ هو التنصيب المبكر للبطل أو الولادة القسرية المبكرة للبطل.. و أحد أسباب تلك الظاهرة هو الخلط فى العقل العربى بين الزعامة و البطولة فالزعيم فى العقل العربى هو دائما بطل و إلا لما إستحق الزعامة و حيث أن واقع الحال هو أن معظم الزعماء ليسوا أبطالا و إنما مجرد قادة مرحليين لشعوبهم فإن البطولة التى يتم إسباغها عليهم هى بطولة مصطنعة فى معظم الأحيان أو مبكرة فى أحيان أخرى.
البطولة الحقيقية ليست منصبا يتبوأه البطل فى حياته و إنما هى تكريم يمنحه الشعب لزعيم يستحقه من خلال مجمل مسيرته و عمله و لذلك فالبطولة لاحقة على إكتمال العمل و تحققه بحيث لم يعد يخشى عليه من إنتقاض أو نقصان و بذلك يسمح بوصف البطل بصفات تقترب من الكمال و التنزيه عن الخطأ لأن ذلك كله يتعلق بمسيرة تمت بالفعل و تم تقييم إيجابياتها و خصم سلبياتها و كانت المحصلة الإيجابية الواضحة كفيلة بتبرير السلبيات أو حتى محوها.. أما منح البطولة و ما يصاحبها من هالات تبلغ التقديس لزعماء لم تكتمل تجاربهم بعد فهو إلى جانب كونه خاطئ فى ذاته له أيضا آثاره المدمرة.. أهم هذه الآثار هو أن إصرار محبى الزعيم على إسباغ قدسية البطولة عليه يصل به هو نفسه إلى التصديق بقدسيته و بقدرته التى تتخطى فهم الآخرين على التمييز بين الصواب و الخطأ و بين ما هو فى صالح الأمة و ما ليس كذلك.. و مع الإستمرار فى تبرير أخطاء الزعيم لأنه بطل يصبح التبرير آليا ثم لا يعود ثمة حاجة للتبرير ثم تصبح أخطاء الزعيم هى عين الصواب و عندها تضيع بوصلة الزعيم و تكثر أخطاءه و تكبر حتى تصبح أحيانا خطايا و ينتهى الأمر بأن يقتل البطل جنينا و يبقى زعيم لم تتحقق بطولته الموعودة.
ما الذى أرغب فى قوله؟ .. ربما آن لنا أن نتوقف عن قتل البطولة فى زعمائنا بأن نخنقها بالمحبة الزائدة و التسليم المبالغ فيه بتمام حكمتهم و تنزيه أعمالهم عن الأخطاء الصغيرة.. ربما ينبغى علينا أن نحاسب زعماءنا على أخطائهم و نصوب مسيرتهم و نحرص على إكتمال نمو البطل داخلهم بألا يحيدوا عن الأهداف الحقيقية و ألا ينشغلوا بالمسارات و الدهاليز الفرعية فيستهلكوا قدراتهم و يستنفذوا أرصدتهم و من ثم عندما يأتى وقت التقييم الحقيقى لبطولتهم تطب الريشة فى الميزان و يسقط البطل.
لسماحة السيد حسن نصرالله أخطاؤه و قد كان لديه من الشجاعة الأدبية و الإنصاف ما يتوقع من مثله فإعترف ببعضها و لذلك فليس إفتئاتا عليه أن نعتبر أمر خلية الإسناد اللوجيستى فى سيناء خطآ ينبغى ملاحظته.. الإفتئات هو إما فى التبرير الكامل أو إعتبار الأمر صوابا فى الأساس و الإفتئات أيضا هو فى التضخيم غير المبرر للأمر و إعتباره خطيئة تبرر محو الإنجازات السابقة و التقليل من قيمتها ثم تبرر أيضا هذا القدر الهائل من البذاءة اللفظية و الفكرية التى إزدحم بها الإعلام.. لست أرى الأمر خطيئة بل لا أراه خطأ كبيرا و ليس بالتأكيد أكبر أخطاء حسن نصرالله فغزوة بيروت مثلا كانت خطآ أفدح.. المهم هو أن نعترف بكون الأمر خطآ و أن نراه فى حجمه الطبيعى و نطلب تصويب المسيرة بالقدر الملائم ثم ننتقل إلى جدول الأعمال الذى هو معلق معظم الوقت لإنشغالنا بالقضايا الطارئة التى لا تنتهى.. و لكن هذه مسألة أخرى!
هناك 4 تعليقات:
مقدمة المقال كانت موضوعية للغاية .. أرجو ألا ينساها القراء بعد الخوض في خضم بدن المقال نفسه
وتعليقي أنا أيضا هنا لا يندرج تحت بند مهاجمة نصر الله أو الدفاع عنه بقدر ماهو محاولة مماثلة لأن ننظر للأمور بحيادية بإيجابياتها وسلبياتها
أحسنت في هذا المقال بتلك الموضوعية النادرة
اسلم معك بان البطل مسيرة حياة باكملها وان العبرة بالخاتمة ... اسأل الله حسن الختام لنا ولكل الناس.
واقر واعترف بان حسن نصرالله بصدقه وتضحيته وصلابته وقيادته رفع سقف البطولة عالياً وخصوصاً انه يتصدى لاقوى دولة في الشرق بجزء من 11 من اضعف دولة في الشرق.
ولكني اود ان اختلف مع حضرتك بخصوص السابع من ايار او ماسميته حضرتك "غزوة بيروت" التي اعتبرها واحدة من اعظم العمليات العسكرية والسياسية والامنية والاخلاقية التي يمكن ان يتشرف اي انسان بقيادتها.
انا جار الرئيس سليم الحص الملقب "بضمير لبنان" لاستقامته ونظافة كفه ورفضه لاحكام الاعدام واقتصار اكله على النبات كي لا يقتل نفساً وان كانت حيوانية، وكنا نسهر على امنه من جراء تكرار تعرض العصابات الفاشية التابعة لجنبلاط والحريري لمنزله وعجز قوى الامن والجيش عن تفريقهم نتيجة تخاذل بعض الضباط ورغبتهم في الحصول على مكاسب من الحكومة الحريرية.
واذا كان امثال سليم الحص لايأمنون على حياتهم وكرامتهم واعراضهم وهو رئيس وزراء سابق،وزعيم للقوة الثالثة، ويتمتع بسمعة محترمة للغاية في الوسط السياسي.
فمابالك بالناس من امثالي، ممن لا لقب لهم او حماية .
لا استطيع ان اصف لك الارهاب والفحش والبذاءة التي تعرضنا لها على مدار سنتين، يكفى ان تعرف ان الاهانة والشتائم والاحجار وقنابل المولوتوف وزخات الرصاص في منتصف الليل كانت هدايا الزمر الفاشية لكل من لايساير سعيهم لاشعال حرب اهلية طائفية مذهبية .
بامكانك ان تقرأ شهادة افضل مايشتريه المال من اقلام وصور وافلام وشهود على ان "غزوة بيروت" كانت من اخطاء حزب الله.
ولكني اؤمن انها عملية عسكرية دامت ساعات وجنبت لبنان حرب اهلية كان يمكن ان تستمر لسنوات.
هذه اهميتها لي كمواطن تم التعرض لي ولزوجتي واحبائي وجيراني من قبل عصابات جنبلاط الحريري, واهميتها الاخرى تحدث عنها الاسرائليون عندما قالوا ان حزب الله خرب في آيام جهودهم لثلاث سنوات من العمل في بيروت.
شكرا سيدى الفاضل لتشريفك لى بالزيارة أولا و لتعليقك الموضوعى و الراقى ثانيا.
لقد إخترت فعلا عدم الخوض فى التفاصيل لأن الفكرة التى أردت طرحها هى تحديدا ما إتفقت معى عليه فى بداية تعليقك.. و قد قيل أن الشيطان فى التفاصيل لأنه فيها يختلف أصحاب المبادئ الواحدة و لكنه الخلاف الذى لا ينبغى أن يفسد للود قضية.
تعريف الخطأ فى مجال العمل السياسى يختلف فى إعتقادى عن تعريفه الأخلاقى المطلق بمعنى أنه ليس كل خطأ سياسى هو بالضرورة خطأ أخلاقى و بمعنى أن الصواب الأخلاقى قد يكون خطآ سياسيا فى ظل ظرف بعينه فى الزمان و المكان.
مسمى "غزوة بيروت" ليس لى بالطبع و لكنى أعترف بأنى إستخدمته تهكما ليس على حزب الله و لكن على من صك التعبير أول مرةو هم للأسف من مؤيدى الحزب و المعجبين به.. لأن مسمى الغزوة لا ينبغى له أن يطلق على عمل عسكرى ضد الأشقاء فى الوطن حتى لو كان مثل ذلك العمل ضرورة أخلاقية أو سياسية فهو فى النهاية أمر محظور لا تبرره إلا الضرورة.
لا أريد أن أزايد عليك و لا يمكننى ذلك فأهل مكة أدرى بشعابها و لكن ظنى (وبعض الظن إثم) أن السابع من أيار لم يكن تحديدا للحد من تهجم بعض الفرقاء على البعض الآخر و لكنه أتى أساسا لإجهاض مؤامرة حيكت بليل فى أروقة الموالاة ضد سلاح حزب الله.. و لا أقول أن السبب الثانى غير مبرر أخلاقيا كالأول و لكن من الواضح أن الهدف الأول كان يمكن تحقيقه دون عمل عسكرى فى قلب عاصمة الوطن الصغير و مدينة هى فى القلب من الوطن الكبير.. و أزعم أن حتى الهدف الثانى كان يمكن تحقيقه دون إستخدام القوة (المفرطة) و ربما كان التلويح بها صراحة يكفى و ربما كان إستخداما محدودا أو إستعراضيا فقط للقوة يكفى .. لا أدرى و لكنها مجرد ظنون لا أملك عليها دليلا لبعد المسافة رغم إقتراب الهم.
لماذا أرى الأمر مبررا كان أو غير مبرر خطآ سياسيا؟ - أولا لأنه إضطر الحزب إلى التخلى عن أحد بنود التعاقد غير المكتوب بينه و بين الداخل اللبنانى و هو بند أن سلاح حزب الله لن يوجه يوما نحو الداخل.
ثانيا لأنه كسر الحاجز النفسى الذى تم بناؤه خلال أعوام من العمل المضنى حائلا دون نشوب إقتتال داخلى بمثل هذا الحجم و فى كسر هذا الحاجز تشجيع لمن يعتقدون أن أمورا فى البلد لابد لها أن تحسم بالسلاح على التحول من مرحلة الترقب و التردد إلى مرحلة الحشد تمهيدا للفعل.
ثالثا.. فقد الحزب قدرا من التأييد الداخلى و العربى كما فقد أيضا و هذا أهم هيبته التى قامت على إرتفاعه فوق مستوى الإقتتال الداخلى.
على أى حال لقد أطلت كثيرا فى إجابتى و ينبغى أن أنهيها بتكرار الشكر لك و أمنياتى بأن تكون إجابتى قد أوضحت حقيقة موقفى من الأمر.
شكرا على رقيك.
واسأل الله ان لا يضع اي انسان بين خيارين كلاهما مر ...
إرسال تعليق