يقال أن الأستاذ أى محمد حسنين هيكل هو صاحب مقولة أن السياسة هى فن الممكن.. و هى مقولة منطقية تماما عندما نتحدث عن سياسة مطابخ وزارات الخارجية و موائد التفاوض و لكن السياسة الجماهيرية.. سياسة المنابر و التظاهرات و صناديق الإنتخابات فهى شيئ آخر و أقرب ما يمكننى تعريفها به هو "تسويق الأحلام" .. فالسياسى صاحب الجماهيرية أو الكاريزما هو فى الواقع تاجر بارع يبيع للناس أحلاما.. و النابهون منهم لا يكلفون أنفسهم حتى مؤونة صناعة أحلام جديدة بل هم فقط يعيدون تعليب أحلام الجماهير ثم يبيعونهم إياها .. أما أكثر تجار الأحلام نجاحا على الإطلاق فهم من يبيعون الناس سراب الأحلام و تلك مهمة ليست سهلة على الإطلاق و قلما نجد ذلك السياسى البارع الذى يتمكن من تسويق مثل تلك البضاعة النادرة..
باراك إبن الحاج حسين أوباما هو أكثر زعماء عالمنا اليوم شعبية و هو واحد من تلك الفئة النادرة من تجار الأحلام .. فهو لا يسوق حلما بعينه له ملامح واضحة فحلمه الذى نجح فى تسويقه لملايين الأمريكان فإنتخبوه رئيسا و صدره إلى ملايين أضعافهم حول العالم فإنتخبوه ملكا لقلوبهم يتلخص فى عبارة بسيطة قصيرة "نعم نستطيع" .. و على رغم قصر هذه العبارة إلى حد أنها لا تعد جملة مفيدة فى أى لغة إلا أن لها أثر ساحر على كل من يسمعها.. فهى وعد بأى شيئ يخطر ببال أى إنسان و لذلك فهى علبة سحرية يمكن لأى شخص أن يرى فيها حلمه الخاص به و يعتقد أن بالإمكان تحقيقه .. هذا هو سر عبقرية تلك العبارة السحرية .. فالحاج أوباما لم يعد فقط تسويق أحلاما بعينها للجماهير بل توصل إلى طريقة يسوق بها لكل شخص حلمه الخاص ..
فى ملاحظة جانبية ليست ظاهرة أوباما هنا منفصلة عن عصرنا فنحن نعيش عصر الإنترنت و أكثر شركاتها نجاحا شقت طريق صعودها بأن سوقت للناس أدوات "شخصنة" تجربة إستكشاف الإنترنت .. و الفكرة وراء ذلك بسيطة للغاية فأنت إن حاولت أن توفر لكل إنسان كل مايرغب فى البحث عنه على الإنترنت فى مكان واحد فمحاولتك محكوم عليها بالفشل لأن ذلك أمر مستحيل و لكنك إن تأملت فى حقيقة مايبحث عنه الناس ستجد أن كل منهم إنما يبحث عن نفسه.. عن مكانه الخاص.. عن العالم المتمحور حول ذاته و لذلك ليس عليك إلا أن تمنح الناس العامل المشترك الأعظم بينهم و هو تحديدا "لا شيئ" فقط صفحة بيضاء يخط كل واحد منهم عليها ما يشاء.. فى واقع الأمر أقوم شخصيا فى هذه اللحظة بالذات بملئ واحدة من تلك الصفحات البيضاء لأعيد نشرها على صفحة جديدة أهم ما بها هو مساحة بيضاء أخرى يمكن لكل عابر سبيل أن يملأها بما يراه مناسبا و فى الحالتين و بمجرد أن ينقر أى منا على ذلك الزر المغرى للنشر تعود صفحة بيضاء جديدة للظهور تغريه بالرغبة فى كتابة شيئ جديد مبتكر و خاص به وحده.. فى نهاية المطاف يمضى ملايين البشر ملايين الساعات فى تصفح ملايين النسخ من الصفحة البيضاء ذاتها و كلهم سعداء بذلك..
لا يسوق أوباما الساحر شيئا أكثر من هذه الصفحة البيضاء و هو حريص كل الحرص على ألا يخط شيئا فى تلك الصفحة إلا و يعود إلى محوه محافظا على نصاعة بياض الصفحة و إغرائها للمفتونين به بأن يضمنها كل منهم حلمه الخاص .. فعل أوباما هذا بدقة الصائغ و هو يقدم عرضه الشحرى على مسرح القاهرة منذ أكثر من شهر .. فالإسلام دين عظيم يعلمنا التسامح و حب الآخر و لكن الإرهابيون المسلمون لابد من قتلهم و لقد عانى الفلسطينيون كثيرا و لذا فلا ينبغى أن ننسى معاناة اليهود وهكذا حتى نهاية العرض الساحر سطر يمحو آخر بميزان دقيق و تبقى الصفحة بيضاء..
و منذ يومين يعيد الساحر عرضه بناءا على طلب الجماهير التى إحتشدت لمشاهدته فى مسرح أكرا فى قلب إفريقيا و مرة أخرى يمارس الساحر حيله ذاتها و بالقدر ذاته من النجاح منقطع النظير فلا ينبغى أن ينكر أحد فداحة جرم الإستعمار و الرق و لكن فشل القارة فى إمتحان التنمية لا يسأل عنه إلا شعوبها و لا يحق لأحد أن يشارك الأفارقة مواردهم البترولية المكتشفة حديثا و لكن ينبغى أن يبحث الأفارقة عمن يساعدهم فى إستغلالها بالشكل الأمثل.. و لقد أثبت أصحاب البشرة السمراء أنهم أبناء عصرهم و أقبلوا على شراء صفحات أوباما و أياديه الممدودة و كلها بيضاء و إن لم تكن من غير سوء فهذا أمر لن يتبينه المنشغلون ببناء قصورهم على شواطئ الحلم الذهبية..
حفنة صغيرة من البشر ليست متصلة بشبكة أحلام أوباما .. ربما لأنهم لا يملكون ترف الحلم.. بالنسبة لهؤلاء لا يسوق أوباما أحلاما بل يصنع واقعهم اليومى الذى ينتزعهم من فرش النوم الخشنة قبل أن يتيسر لهم أن يحلموا بشيئ.. لقد وصلت يد أوباما الممدودة إلى هؤلاء و صلت مع آلاف الجنود المدججين بالسلاح.. و رسالة أوباما لهؤلاء لا تختلف بشكل جذرى عن رسالته لغيرهم فهى رسالة محو.. تمحو عالمهم الصغير الفقير الذى إعترض صدفة شبكة العصر الحديث لتسويق الصفحات البيضاء..
لا يملك هؤلاء ثمن الحلم لأنهم حتى لا يملكون قوت يومهم و من ثم فليس بإمكانهم الولوج إلى شبكة أوباما التى تحصل من الناس أحلامهم و تدفع لهم فى مقابلها كروت إئتمان تضمنها بنوك أمريكية يمضى الآن مديروها إجازات نهاية الخدمة بعدما أعلنوا إفلاسها إلا من بضع الملايين التى تقاضوها كمكافآت نظير خدماتهم الجليلة.. و لكن للأسف الشديد ليس لأفغانستان شواطئ ذهبية و نساؤها بعد ما يقرب من عقد من الإحتلال الأمريكى مازلن يفضلن البراقع التى فرضتها عليهم طالبان التى قيل أنها هزمت و لكنها تسيطر فعليا على كامل الريف الأفغانى إضافة إلى مرتفعات وزيرستان الباكستانية.. و ليس من سبيل إلى تحرير المرأة الأفغانية إلا بقصفها مرة ثانية بل ثالثة أو رابعة .. لم يعد أحد يهتم بالعد فطوال ثلاثين عاما تعاون الأفغان مع محسنون من شتى دول العالم الحر و غير الحر فى قصف ماكان أشباه مدن و قرى لتسويته بما يشبه أرضهم التى كانت..
باراك أوباما و بين رحلاته لتسويق حلم "نعم نستطيع" حتى باب كل منزل متصل بشبكة الأحلام كان يمارس السياسة بمعناها الحقيقى و هى فن الممكن.. فمن الممكن أن تقتل من الأفغان أكثر مما قتل بوش الصغير و تدخل التاريخ بينما يخرج هو إلى مزبلة التاريخ .. و من الممكن أن تفرض على حكومة باكستان الديموقراطية أن تقصف مواطنيها بينما فشل نفس البوش فى إقناع ديكتاتور باكستان السابق غير الديموقراطى بفعل الشيئ ذاته .. وفى حين تعبت قدما بوش المسكين و هو يدور بين عواصم إفريقيا بحثا عمن يقبل بالمركز الرئيسى لقوة المخابرات و الإرهاب الأمريكى أفريكوم على أرضه دون جدوى فمن الممكن الآن أن تختار على مهل من بين العواصم المتلهفة على فتح أبوابها لأفريكوم ذاتها..
من فن الممكن أيضا أن تصرخ فى وجه نتنياهو حتى يجمد بناء المستوطنات بينما تمولها بزيادة المعونة المقدمة إلى الدولة اليهودية و سيشكرك العرب كراع للسلام بينما يلعنون بوش الأب الذى جمد فعليا الإئتمان الذى كانت بلاده تقدمه لعمليات البناء فى المستوطنات .. و من الممكن أن يصفق لك الجميع عندما تنطق بكلمة الدولة الفلسطينية التى لم يصفق أحد عندما نطق بها بوش الإبن الكريه و سيتفهمون ترحيبك بقبول نتنياهو بهذه الدولة رغم أن تعريفه لها أدنى كثيرا من تعريف معلمه المجحوم شارون و كل ماهناك أنه سماها دجاجا مقليا ولكنه للأسف لم يكن يعرف سر الخلطة.. و الآن يمكنك أن تتقاضى من العرب ثمن تجميد المستوطنات التى يجرى العمل عليها بفضل تمويلك على هيئة تطبيع مع الدولة اليهودية و هو مالم يحصل بوش عليه رغم تسويقه لمشهد تعليق زعيم عربى كذبيحة فى عيد الأضحى على كل القنوات العربية!
يبدو أن السياسة فى النهاية تبقى فن الممكن.. و الممكن هو تعبير عما يستطاع فعله و ماتدعمه قوتك.. و الممكن ليس حلما طليقا فى فضاء الوهم غير المحدود.. فالحلم يمكنك أن تصحو على حقيقته فتجد أن الحوار المتبادل هو أن أضربك فتصرخ و أن إحترام الآخر أن تحترم قوتى فأحترم إذعانك و أن التسوية السلمية و الحل العادل للقضية هى تسوية للقضية بالأرض بشكل سلمى يرضى عادل إمام..